دور الخبرة القضائية في تفعيل مسيرة الإصلاح القضائي
تندرج الخبرة كأصل ضمن مجال الإثبات، هذا الأخير الذي يفيد من الناحية الاصطلاحية إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها
(1) ذلك أن الواقعة المدعى بها أمام القضاء ومن أية طبيعة كانت، والتي تتعرض للإنكار من جانب الخصم المدعى عليه فيها لا تكون لها عمليا أية قيمة حقيقية إلا إذا أثبتها من يتمسك بها طبقا للقاعدة الأصولية التي تقضي بأن البينة على من يدعي
(2) لذلك قيل بحق أن الدليل هو فدية الحق المتنازع فيه، وبمفهوم آخر، يستوي حق معدوم أحيانا وحق لا دليل عليه
(3). ومما تجب ملاحظته، أن طرق الإثبات ووسائله المتعددة منها ما يتسم بطابع موضوعي وتتمثل في الإقرار والكتابة وشهادة الشهود والقرائن بشقيها القانونية والقضائية واليمين بنوعيها الحاسمة والمتممة، ومنها ما يتسم بطابع إجرائي وتتمثل خصوصا في الخبرة والمعاينة والأبحاث وتحقيق الخطوط والزور الفرعي بالإضافة إلى الإجراءات الخاصة بالإدلاء بالشهادة وبأداء اليمين
ولاختلاف طبيعة هذه الوسائل، فإن المشرع المغربي قد عمل على توزيعها بين قانون الالتزامات والعقود حيث تنظيم ما اتسم منها بطابع موضوعي، وبين قانون المسطرة المدنية حيث تنظيم ما اتسم منها بطابع إجرائي، إلى جانب بعض النصوص القانونية الخاصة، والذي يهمنا نحن من وسائل الإثبات هذه الخبرة القضائية، الشيء الذي يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل الإطار القانوني والواقعي الذي يحكم الخبرة القضائية في الوقت الراهن كفيل بتفعيل مسيرة الإصلاح القضائي؟
الإجابة عن ذلك تقتضي منا بحث ماهية الإصلاح القضائي (أولا) على أن نعرج عن مدى مساهمة الخبرة القضائية في تفعيل مسيرته (ثانيا).
أولا: ماهية الإصلاح القضائي
شهد العالم في الوقت الراهن تحولات اقتصادية واجتماعية ناتجة أولا عن التطور المعرفي بفعل تقدم الأبحاث في التكنولوجيا، وتطور الاتصالات وعلى الخصوص الرقمية وناتجة ثانيا عن شمولية الاقتصاد وعولمته لأنه من يقول بفتح الباب أمام المنافسة يقول بضرورة الحصول على منتوج بأقل تكلفة، فالسياق العام الذي نعيش ظرفيته المتميزة يقضي بكل تفاعلاته إلى التقليص التدريجي لدور القطاع العام في الأنشطة المنتجة من ناحية، وإلى التوسيع لدور القطاع الخاص من ناحية أخرى، فهو سياق من شأنه أن يقوى لدى الفاعلين الاقتصاديين نزوعهم المشروع للثقة في القانون واحتساب مدى وضوحه وفاعليته في مجال الإطمئنان إليه ومن ثم فمن الطبيعي أن تتطلع العدالة إلى أخذ بعد جديد لتتجاوب مع هذا السياق، لأن الآلية تفرض الاهتمام أكثر بالمواطن الاقتصادي. إن سلامة الجسم القضائي هي المحرك لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأن ما يطلبه المستمثر عن حق هو أن تكون العدالة محل ثقة، وأن تتوافر نصوص قانونية واضحة تضمن الاستقرار والتوقع القانونيين، وهذا الدور لا يمكن أن يكون إيجابيا، إلا إذا كان الأداء في المستوى الرفيع في التفاعل مع القانون، وفي استهداف المصلحة العليا للبلاد، وفي التجرد من الطموحات الشخصية للفاعلين في ميدان العدالة حتى جاز القول (أعطيني قضاء سليما وجيدا أعطيك تنمية دائمة).
فالإصلاح القضائي يعتبر بحق منطلق طموح وإقلاع نحو آفاق التجديد والتطوير وفق مفاهيم العصر الحديث، فهو يندرج في إطار سياسة تكييف الألفية الثالثة بغية تثبيت الثقة والاطمئنان اللذان بدونهما لا يمكن تحقيق أي رغد اقتصادي واجتماعي.
فالثابت والأكيد، أن مسلسل الإصلاح القضائي يندرج ضمن الأولويات الأساسية
الواجب التعجيل بها ليقوم الجهاز القضائي بدوره في ضمان الحقوق والحريات وتثبيت دولة الحق والقانون، لذا نسجل بارتياح كبير اهتمام وزارة العدل بموضوع هذا الإصلاح والشروع في فتح أوراش تهم جوانب أساسية من شأنها إصلاح الخلل الذي يعاني منه هذا القطاع لا سيما بالنسبة لمساعديه، من ذلك اليوم الدراسي الذي انعقد بخصوص الحقيقة القانونية والواقعية للخبرة ودورها في تفعيل مسيرة الإصلاح القضائي، واليوم الدراسي المقام من طرف وزارة العدل والجامعة المغربية لجمعيات الخبراء والتراجمة المحلفين ليوم 12/06/2004 بالمعهد العالي للقضاء بالرباط في موضوع (دور الخبرة القضائية في التنمية الاقتصادية والاستثمار).
ثانيا: ما مدى مساهمة الخبرة القضائية في تفعيل مسيرة الإصلاح القضائي
إن محاولة إيجاد الوسائل الناجحة والبحث عن السبل الكفيلة لمساهمة الخبرة القضائية في تفعيل مسيرة الإصلاح القضائي لا يمكن أن يتم إلا عبر طرح جملة من المعطيات التي يفرضها الواقع العملي ضمن نظم معينة ومحددة تركز على ضرورة فهم طبيعة هذا الواقع، ثم البحث عن السبل لإيجاد الحلول الناجحة عبر دراسة تحليلية لهذا الواقع، وإدراك مواقع الخلل فيه كخطوة أولى نحو العمل المنشود الكامن في معالجة الأسباب المؤدية إلى هذا الواقع، ذلك أن تأثير الخبرة القضائية سواء كان إيجابيا أو سلبيا يقوم وظيفة القضاء في المجتمع. ونظرا لهذه الأهمية البالغة الخطورة في عمل الخبرة القضائية ما فتئ لساننا يلهج بضرورة إصلاح حالها بما يساهم في تفعيل قطاع العدل وذلك بتوافر الآليات التالية:
- تفعيل سياسة التكوين والتكوين المستمر
يعتبر التكوين وإعادة التكوين مرحلة ضرورية لتأهيل الخبراء والحال أن هذا يتطلب:
1 ـ إحداث مركز للتكوين يقضي فيه المرشحون للمهنة مدة تدريبية قبل الممارسة مع ضرورة إعادته حسبما تفرزه تراكمات العمل اليومي، وما يصدر من تشريعات جديدة.
2 ـ إسناد مهمة التكوين لفعاليات تتوفر على البيداغوجية الضرورية للتلقين.
3 ـ الاعتماد على مناهج تتماشى والتطور العام الذي تعرفه البلاد نتيجة الانفتاح الدولي وتزايد المطالبة بالاسثتمارات الأجنبية.
- تكريس ثقافة التخليق الممارساتي والعملي وذلك بالابتعاد عن السلوكات والممارسات المشينة والشاذة التي تتفاقم وتتنوع أساليبها، وفي هذا الصدد يتعين وضع مدونة حسن السلوك، ومدونة الأخلاقيات العامة ذلك أن الأولى تهدف إلى جمع القواعد القانونية العامة والملزمة والمجردة وكذا تبسيط مضمونها حتى يلم الخبير بواجباته والتزاماته في إطار ما تفرضه عليه المشروعية، أما المدونة الثانية، فإنها تهدف إلى تدوين السلوكات الحميدة والعفوية التي يتعين الاعتماد عليها كمرجعية لمجموعة من الأدبيات الكفيلة بإرساء الضوابط المعنوية الضرورية كالنزاهة، والإيثار والاستقامة والنبل والإنصاف.
- الالتزام بالجودة والإتقان في كل ما ينجز من مهام لخوض غمار التنافسية التي شهدها عالمنا اليوم.
- خلق قنوات للتواصل بين القضاة والخبراء لطرح الصعوبات التي تعيق إنجاز الخبرة المأمور بها وتوخي الحلول المناسبة لها.
- خلق دليل عملي لشرح وتوضيح وبسط مختلف العمليات المرتبطة بالخبرة ويستحسن إنجازه باللغتين العربية والفرنسية.
- تكريس ثقافة الاختصاص لدى الخبراء، وذلك بضرورة احترام هؤلاء لاختصاصاتهم المسندة إليهم ومراجعة المحكمة فورا متى اتضح أن الخبرة تمت خارج دائرة الاختصاص.
- عدم السماح للخبير بسحب أتعابه قبل اطلاع القاضي على التقرير والتأكد من استيفائه للشروط المطلوبة.
- عرض ورقة المصروف في الأكشاك ليتأتى للخبراء اقتناؤها لاستعمالها في قبض الأتعاب المحددة لهم تسهيلا لمهنتهم وتلافيا لضرورة التنقل لتلك المحاكم لملأ تلك الورقة بكتابة الضبط والتوقيع عليها.
- مناشدة القضاء بعدم اللجوء إلى الخبرة إلا في حالة الضرورة القصوى ذلك أنه وفي بعض الأحيان تبقى الخبرة إجراء مكلفاً وغير مضمون النتائج، بل قد تكون سبيلا للمماطلة والتسويف، وفي هذا الإطار يستحسن وكما ذهب إلى ذلك أستاذنا محمد الكشبور أن يضاف إلى قانون المسطرة المدنية نص شبيه أو مقتبس من المادة 263 من قانون الإجراءات المدني الفرنسي الذي يجعل الخبرة إجراء احتياطيا لا يمكن اللجوء إليه إلا في الحالة التي لا تفيد فيها المعاينات أولا، ثم الاستشارات ثانيا لبساطتها وعدم تكلفتها.
إحداث لجنة يعهد إليها بإعداد ميثاق وطني للعدالة، وذلك على غرار ما تم اتخاذه في ميدان التعليم، والحال أن هذه المبادرة لمن شأنها زحزحة ستار النسيان الذي غطى مشكل القضاء بشكل عام ومساعديه بشكل خاص. تلك ورقة متواضعة حاولت من خلالها ملامسة أحد المواضيع الهامة متمنيا توافر الآليات التي من شأنها المساهمة في إبرام عقد من نوع خاص يسمح لنا بالحديث عن الزواج السعيد بين الخبرة القضائية ومسلسل الإصلاح القضائي الرامي إلى إعادة النظر في آلياتنا القضائية والإدارية وفق حاجياتنا وواقعنا مع الأخذ بعين الاعتبار حالات التساكن التي اختارها المغرب مع الخارج دون زيف ودون تظاهر بغير حقيقتنا كمن يزخرف نفسه من الخارج غير عابئ بالمضمون، فعلينا أن تعلم طريقة اصطياد السمك لأنها خير لنا من التفنن في إعداد أطباقه للاستهلاك، أو كما تقول المقولة (إن لم تكن في صدارة السباق فسوف تخسر إذ ليس هناك غير ميدالية ذهبية واحدة).
الهوامش
1) عبد الرزاق أحمد السنهوري الوسيط في شرح القانون المدني الجزء الثاني ـ دار النهضة العربية بالقاهرة 1965 ص 13 و 14.
2) أستاذنا محمد الكشبور: الخبرة القضائية في قانون المسطرة المدنية (دراسة مقارنة) سلسلة الدراسات القانونية المعاصرة 3 الطبعة الأولى 1420 ـ 2000 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء ص 9.
3) تنص مقتضيات المادة 1 من قانون رقم 4500 المتعلق بالخبراء القضائيين بأنه (يعتبر الخبراء القضائيون من مساعدي القضاء ويمارسون مهامهم وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون وفي النصوص الصادرة تطبيقا له).
عن مجلة الفقه والقانون ... ونشكر جهود صاحب المجلة ذ. عز الدين الماحي